كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب} يعني بني النضير {من ديارهم} يعني التي كانت بالمدينة.
قال ابن إسحاق كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد، وفتح قريظة مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان {لأول الحشر} قال الزهري كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى وكان الله قد كتب عليهم الجلاء ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا قال ابن عباس من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية فكان هذا أول حشر إلى الشام قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أخرجوا» قالوا إلى أين؟ قال: «إلى أرض المحشر» ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام وقيل إنما قال لأول الحشر لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب ثم أجلي آخرهم عمر بن الخطاب وقيل كان هذا أول الحشر من المدينة والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام في أيام عمر، وقيل كان هذا أول الحشر والحشر الثاني نار نحشرهم يوم القيامة من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا {ما ظننتم} يعني أيها المؤمنين {أن يخرجوا} أي من المدينة لعزتهم ومنعتهم وذلك أنهم كانوا أهل حصون وعقار ونخل كثير {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله} أي وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله {فأتاهم الله} أي أتاهم أمر الله وعذابه {من حيث لم يحتسبوا} وهو أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك، {وقذف في قلوبهم الرعب} أي الخوف الشديد بقتل سيدهم كعب بن الأشرف {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} قال الزهري وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالحهم على أن لهم ما أقلت الإبل كانوا ينظرون إلى الخشب في منازلهم فيهدمونها وينزعون ما استحسنوه منها فيحملونه على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها وقيل كانوا يقلعون العمد وينقضون السقوف وينقبون الجدران لئلا يسكنها المؤمنون حسدًا منهم وبغضًا وقيل كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ويخربها اليهود من داخلها وقال ابن عباس كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها لتتسع لهم المقاتل وجعل أعداء الله ينقبون دورهم من أدبارها فيخرجون إلى التي بعدها فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، {فاعتبروا} يعني فاتعظوا وانظروا ما نزل بهم {يا أولي الأبصار} يعني يا ذوي العقول والبصائر.
{ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء} يعني الخروج من الوطن {لعذبهم في الدنيا} يعني بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة {ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك} أي الذي لحقهم ونزل بهم {بأنهم شاقوا الله ورسوله} أي خالفوا الله ورسوله {ومن يشاقِّ الله فإن الله شديد العقاب} قوله تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} الآية وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وأحرقها فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخل وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فسادًا.
واختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا وقال بعضهم بل نغيظهم بقطعه فأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم وأن ذلك كان بإذن الله تعالى: (ق) عن ابن عمر قال: حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فنزل {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} البويرة اسم موضع لبني النضير وفي ذلك يقول حسان بن ثابت:
وهان على سراة بني لؤيّ ** حريق بالبويرة مستطير

قال ابن عباس النخل كلها لينة ما خلا العجوة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع نخلهم إلا العجوة، وأهل المدينة يسمون ما خلا العجوة من التمر الألوان وقيل النخل كلها لينة إلا العجوة والبرنية وقيل اللينة النخل كلها من غير استئناف وقال ابن عباس في رواية أخرى عنه هي لون من النخل وقيل كرام النخل وقيل هي ضرب من النخل يقال لتمرها اللون وهو شديد الصفرة ويرى نواه من خارج يغيب فيه الضرس وكان من أجود تمرهم وأعجبه إليهم وكانت النخلة الواحدة ثمنها ثمن وصيف وأحب إليهم من وصيف فلما رأوهم يقطعونها شق عليهم ذلك وقالوا للمؤمنين إنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون دعوا هذا النخل قائمًا هو لمن غلب عليه فأخبر الله أن قطعها كان بإذنه، {وليخزي الفاسقين} يعني اليهود والمعنى ولأجل إخزاء اليهود أذن الله في قطعها احتج العلماء بهذه الآية على أن حصون الكفار وديارهم لا بأس أن تهدم وتحرق وترمى بالمجانيق وكذلك قطع أشجارهم ونحوها.
قوله: {وما أفاء الله على رسوله} أي ما رد الله على رسوله {منهم} أي من يهود بني النضير {فما أوجفتم عليه} يعني أوضعتم وهو سرعة السير {من خيل ولا ركاب} يعني الإبل التي تحمل القوم وذلك أن بني النضير لما تركوا رباعهم وضياعهم طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسمها بينهم كما فعل بغنائم خيبر فبين الله تعالى في هذه الآية أنها لم يوجف المسلمون عليها خيلًا ولا ركابًا ولم يقطعوا إليها شقة ولا نالوا مشقة وإنما كانوا يعني بني النضير على ميلين من المدينة فمشوا إليها مشيًا ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جمل، {ولكن الله يسلط رسله على من يشاء} من أعدائه {والله على كل شيء قدير} أي فهي له خاصة يضعها حيث يشاء فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئًا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم أبو دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة عن مالك بن أوس النضري أن عمر دعاه إذ جاءه حاجبه يرفأ فقال هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد يستأذنون؟ قال نعم فأدخلهم فلبث قليلًا ثم جاء يرفأ فقال هل لك في عباس وعلي يستأذنان؟ قال نعم فأذن لهما فلما دخلا قال العباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا فقال القوم أجل يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر قال مالك بن أوس يخيل إليّ أنهم قد كانوا قدموهم لذلك فقال عمر اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» يريد بذلك نفسه قالوا نعم ثم أقبل عمر على العباس وعلي وقال أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» قالا نعم قال عمر إن الله خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بخاصة لم يخصص بها أحدًا غيره فقال: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} الآية قال فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير فوالله ما استأثرها عليكم ولا أخذها دونكم فقد أعطاكموها وقسمها فيكم حتى بقي هذا المال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقة سنة ثم ما بقي يجعله مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ثم أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون ذلك؟ قالوا نعم قال ثم نشد عباسًا وعليًا بمثل ما نشد القوم أتعلمان ذلك؟ قالا نعم قال فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضه أبو بكر فعمل فيه بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم حينئذ وأقبل على علي وعباس وقال تذاكران أن أبا بكر عمل فيه كما تقولان والله يعلم إنه لصادق راشد تابع للحق ثم تو في الله أبا بكر فقلت أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فقبضته سنتين من إمارتي أعمل فيهما بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر والله يعلم إني فيه لصادق بار راشد تابع للحق ثم جئتماني كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع فقلت لكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قوله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} يعني من أموال كفار أهل القرى قال ابن عباس هي قريظة والنضير وفدك وخيبر وقرى عرينة {فلله وللرسول ولذي القربى} يعني بني هاشم وبني المطلب {واليتامى والمساكين وابن السبيل} قد تقدم تفسيره في سورة الأنفال في حكم الغنيمة وقسمتها وأما حكم الفيء فإنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدة حياته يضعه حيث يشاء فكان ينفق على أهله منه نفقة سنتهم ويجعل ما بقي مجعل مال الله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله.
واختلف العلماء في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قوم هو للأئمة بعده وللشافعي فيه قولان أحدهما أنه للمقاتلة والثاني هو لمصالح المسلمين ويبدأ بالمقاتلة ثم بالأهم فالأهم من المصالح.
واختلفوا في تخميس مال الفيء فذهب قوم إلى أنه يخمس فخمس لأهل خمس الغنيمة وأربعة للمقاتلة أو للمصالح وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل مصرف جميعه واحد ولجميع المسلمين فيه حق قرأ عمر بن الخطاب {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى حتى بلغ للفقراء المهاجرين} إلى قوله: {والذين جاؤوا من بعدهم} ثم قال هذه استوعبت المسلمين عامة قال وما على وجه الأرض مسلم إلا وله في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم {كيلا يكون} الفيء {دولة} والدولة اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم {بين الأغنياء منكم} يعني بين الرؤساء والأقوياء فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه وهو المرباع ثم يصطفي بعده ما شاء فجعله الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمه فيما أمره به {وما آتاكم الرسول فخذوه} أي من مال الفيء والغنيمة {وما نهاكم عنه} أي من الغلول وغيره {فانتهوا} وهذا نازل في أموال الفيء وهو عام في كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أو نهي عنه من قول أو عمل من واجب أو مندوب أو مستحب أو نهى عن محرم فيدخل فيه الفيء وغيره عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله» فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت ما حديث بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا وذكرته فقال عبد الله وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت المرأة لقد قرأت لوحي المصحف فما وجدته فقال إن كنت قرأته لقد وجدته قال الله: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} الوشم هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة ثم يحشى بكحل والمستوشمة هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك والنامصة هي التي تنتف الشعر من الوجه والمتفلجة هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة وقيل هي التي تتفلج في مشيتها فكل ذلك منهي عنه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم} يعني ألجأهم كفار مكة إلى الخروج {يبتغون فضلًا من الله} أي رزقًا وقيل ثوابًا من الله {ورضوانًا} أي أخرجوا من ديارهم طلبًا لرضا الله: {وينصرون الله ورسوله} أي بأنفسهم وأموالهم والمراد بنصر الله نصر دينه وإعلاء كلمته {أولئك هم الصادقون} أي في إيمانهم قال قتادة المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والعشائر وخرجوا حبًا لله ولرسوله واختاروا الإسلام على ما كانوا فيه من شدة حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفًا» وعن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك خمسمائة سنة» أخرجه أبو داود.
قوله: {والذين تبوءوا الدار والإيمان} يعني الأنصار توطنوا الدار وهي المدينة واتخذوها سكنًا {من قبلهم} يعني أنهم أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين والمعنى والذين تبوءوا الدار من قبل المهاجرين وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ {يحبون من هاجر إليهم} وذلك أنهم أنزلوا المهاجرين في منازلهم وأشركوهم في أموالهم {ولا يجدون في صدورهم حاجة} أي حزازة وغيظًا وحسدًا {مما أوتوا} أي أعطي المهاجرين من الفيء دونهم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئًا إلا ثلاثة فطابت أنفس الأنصار بذلك ك {ويؤثرون على أنفسهم} أي ويؤثر الأنصار المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم {ولو كان بهم خصاصة} أي فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون به عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه فقالت والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء ثم أرسل به إلى أخرى فقالت مثل ذلك وقلن كلهن مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يضيفه يرحمه الله فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة فقال أنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته هل عندك شيء؟ قالت لا إلا قوت صبياني قال فعلليهم بشيء ونوميهم فإذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل فإذا هوى بيده ليأكل فقومي إلى السراج كي تصلحيه فأطفئيه ففعلت فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد عجب الله أو ضحك الله من فلان وفلانة» زاد في رواية: «فأنزل الله {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}».